كتاب رسالة من مجهولة تأليف ستيفان زفايغ- مكتبة خطوتي
لمحة عن الكتاب:
كنت دوما منبهرة بقوة هذا النص، بجماله اليائس، بعمقه و نضجه، هو قصة قلب ظل على أهبة الاستعداد للحب و الموت، قلب لم يحده شيء كان يفنى ببراءة وإلهام، قصة قلب مشرق و هو يحكي، ويتعرى أمام رجل معشوق، حياة بأكملها نرى الراوية تكبر أمام ناظرينا، و تتعلم الحب بكل اعتداد، بكل سرور، ثم نرى الجنون يتربص بها، ويصيبها إلى الأبد. حينها كان فرويد والتحليل النفسي يبهران الناس كان زفايغ يرسم ملامح حب مدمر يراقص الموت. فهو يقول لنا إننا لا نمتلك مطلقا أي أحد، وإن العشق المفترس من جانب واحد يصيبنا بالجنون، ويقودنا إلى القبر، في هذا الحب الميتافيزيقي العنيد من النقاء ما يجعله متيقظا ممتعا، مثل سر يهدئ من روع العاشقة و ينشئها إنشاء، في هذا الحب صدى حميم يرجع في كل واحدة منا، زفرة عذبة مضنية رهيبة تقودنا إلى أشد شياطيننا انفلانًا، فحين لا نتعرف إلى أنفسنا لا يتعرف إلينا أحد.
ابني مات أمس، صارعت الموت ثلاثة أيام وثلاث ليال عسى أن أنقذ ذلك الكائن الصغير الغض؛ بقيتُ جالسة عند رأسه أربعين ساعة، والإنفلونزا تخض جسده المسكين الذي ألهبته الحمى، كنتُ أبتل جبينه المتقد؛ وأمسك يديه الصغيرتين المحمومتين ليل نهار، وفي الليلة الثالثة خارت قواي، ولم تعد عيناي تقويان على الشهر؛ فكانتا تُغمضان وقد أثقلها النعاس دون إرادتي، و هكذا بقيت ثلاث ساعات أو أربعا نائمة على كرسيي البائس، كان الموت خلالها قد قبض روح ابني. هو الآن هنا، صغيري العزيز المسكين، قابع في سرير الأطفال الضيق، كما في لحظة موته، لا شيء تغير سوى أنهم أسبلوا عينيه، عينيه السوداوين الذكيتين، وجمعوا يديه على قميصه الأبيض، بينما كانت أربع شمعات تحترق فوقه في أركان الشرير الأربعة، لا أجرؤ على النظر ولا على الحركة، لأن ألهبة الشموع عندما تتمايل ينعكس وميضها على وجهه وعلى فمه المغلق، فتبدو ملامحه كأنها تنتعش و يخيل إلي أنه لم يمت، وأنه سيفيق ويقول لي بصوته الصافي بضع كلمات طفولية حانية، بيد أني كنت أعرف أنه مات، و لا أريد أن أنظر إليه، فأصاب بالخيبة مرة أخرى، أعرف، أعرف أن طفلي مات أمس، و لم يبق لي في الدنيا سواك، أنت الذي لا يعرف عني شيئا.
مقتطفات من كتاب رسالة من مجهولة:
- " أنا التي لم تكن سوى طفلة، كان يحترمني، فيبدو لي دائم البشاشة بالغ الجد، و عندما كان ينطق باسمك، فإنه يفعلها دائما بنوع من الإجلال و بوقار خاص، و سرعان ما تدرك أنه أشد تعلقا بك مما يبديه الخدم في العادة من تعلق."
- " بعد أيام قليلة، أقبل الدهانون و مصممو الديكور و المجصون و التجادون ليعيدوا تهيئة الشقة التي هجرها سكانها القذرون، فلم نكن نسمع إلا دق المطارق و ضجيج التنظيف و الكشط، و لكن أمي لم تنزعج من ذلك قط، فقد كانت تقول: أخيرا انتهت حقا خصومات الجيران الكريهة."
- " أروي لك كل هذا يا حبيبي، كل تلك الأمور الصغيرة، التافهة ريبا، لتفهم كيف استطعت منذ البداية أن تكون لك مثل تلك السلطة على الطفلة الوجلة الخجول التي كنت.."